رغم أن البنية التحتية لأي منشأة
تبدأ من فوق سطح الأرض، فإن مصيرها غالبًا ما يُقرر تحتها. فعلى عمق أمتار قليلة،
تكمن التربة التي تتفاعل مع الأساسات، حاملةً فوقها أوزانًا قد تصل إلى آلاف
الأطنان، متعرضة لتغيرات مائية، وضغوط دورية، واهتزازات غير متوقعة. وحين تُغفل
الخصائص الجيوتقنية لهذه التربة، أو تُفهم بشكل خاطئ، تصبح الأساسات عرضة للفشل،
ويصبح المبنى، مهما كانت هندسته، مجرد هيكل هش فوق هاوية.
تاريخ الهندسة المدنية حافل بقصص فشل
مروعة، كان بطلها الأساس لا الهيكل. في هذا المقال، نستعرض الأسباب الجيوتقنية
الشائعة لفشل الأساسات، ونغوص في أبرز الكوارث التي شهدها العالم، لنستخلص منها
دروسًا لا تُقدَّر بثمن.
الأساس ليس مجرد عنصر خرساني يُدقّ
في الأرض. إنه الوسيط بين الهندسة والجيولوجيا، بين الحسابات النظرية وواقع
التربة. ولأن التربة ليست مادة متجانسة مثل الخرسانة أو الفولاذ، فإن سلوكها يختلف
من مكان لآخر، بل أحيانًا من متر لآخر في نفس الموقع.
تفشل الأساسات غالبًا لأن التربة لم
تُفهم جيدًا. وربما يعود السبب إلى اختبارات جيوتقنية ناقصة، أو فرضيات غير دقيقة،
أو حتى إلى سوء تنفيذ. هذا الفشل قد يظهر على شكل هبوط مفرط (Excessive Settlement)، أو اختلاف في الهبوط بين أجزاء المبنى (Differential Settlement)، أو قصور في قدرة التحمل (Bearing Failure)، أو انزلاق أو انقلاب (Sliding/Overturning) في التربة المجاورة.
ولكن لكل نمط من هذه الفشلات قصة،
ومع كل قصة مأساة ومعها عبرة.
برج بيزا المائل
لنبدأ من الماضي. برج بيزا المائل في
إيطاليا، أحد أشهر المعالم السياحية في العالم، هو في الحقيقة أحد أشهر إخفاقات
التصميم الهندسي عبر العصور. عند بدء البناء في القرن الثاني عشر، لم يكن هناك فهم
واضح لطبيعة التربة تحت البرج، وهي مزيج من الرمل والطين والمياه الجوفية.
بعد بناء الطابق الثالث، بدأ البرج
يميل بشكل ملحوظ. السبب؟ هبوط غير متساوٍ بسبب ضعف التربة من جهة دون
الأخرى. ورغم توقف البناء لعدة عقود، استُكمل لاحقًا دون معالجة جذرية للمشكلة.
واليوم، يميل البرج بنحو 4 درجات، وتم تثبيته بشق الأنفس بعد قرون من المحاولات.الدرس المستفاد انه لا تبدأ ببناء أساس قبل أن تفهم ما تحته. إن إهمال الدراسات الجيوتقنية في المراحل الأولى
هو خطأ لا يمكن تصحيحه بسهولة لاحقًا.
فشل مبنى سويتو في نيجيريا (2006)
في نيجيريا، انهار مبنى سكني قيد
الإنشاء عام 2006 في منطقة سويتو، ما أدى إلى مقتل العشرات. التحقيقات أظهرت أن
الأساسات لم تكن مصممة لتحمل وزن الطوابق المتعددة، بل إن التربة الطينية لم تكن
مناسبة لأي أساس سطحي في ذلك الموقع.
ما يزيد الأمر فداحة هو أن الحفر
الأولي كشف عن مياه جوفية مرتفعة، ومع ذلك لم يتم تعديل التصميم. تجاهل
سلوك التربة التماسكية المشبعة بالماء كان أحد الأسباب الجوهرية للفشل، حيث أدت
الأحمال إلى زحف التربة
(Creep)،
وانهيار القص الجانبي تحت الأساسات.
الدرس هنا عميق حين تتحدث التربة، يجب أن تُصغي لها. تجاهل الإشارات الجيولوجية يؤدي حتمًا إلى
الكوارث.
انهيار سد تافت في كاليفورنيا (1928)
سد تافت، أحد أسوأ الكوارث الإنشائية
في التاريخ الأمريكي، انهار بشكل مفاجئ بعد فترة قصيرة من ملئه. رغم أن تصميم السد
كان وفق معايير عصره، إلا أن الموقع المختار لم يكن مستقرًا. الصخور تحت السد كانت
تحتوي على طبقات شديدة الميل والانفصالية، ومع ضغط الماء، انهارت هذه
الطبقات وأدت لانزلاق ضخم في التربة، ما أسقط السد بالكامل في لحظات.
هذا الحادث أبرز للمرة الأولى مفهوم "الاستقرار الشامل للموقع"، الذي لا يتعلق فقط بنوع التربة، بل أيضًا
بالتركيب الجيولوجي العميق وتفاعله مع الأحمال والمياه.لذلك قبل كل شيء، افحص طبقات الأرض كما تفحص هيكل المبنى، فالبنية الخفية أخطر من البنية
الظاهرة.
فشل جسر هانغزو في الصين (2008)
جسر هانغزو، أحد المشاريع الكبرى على
بحر الصين، تعرض لانحراف وهبوط جزئي بعد أشهر من افتتاحه. التحقيقات أظهرت أن
الركائز
(Piles) التي
صُممت لتحمل الجسر وصلت بالفعل إلى طبقة صخرية، ولكن هذه الطبقة نفسها كانت مائلة
بشكل غير منتظم، ما أدى إلى اختلاف في الدعم من ركيزة لأخرى.
ورغم أن التصميم أخذ في الحسبان قدرة
التحمل، إلا أنه أغفل الميلان الهندسي لطبقة التأسيس، ما جعل الجسر يعاني
من هبوط تفاضلي. تم تعديل بعض الركائز لاحقًا باستخدام الحقن والتدعيم.
القصص السابقة لا تعني أن التصميمات
سيئة دائمًا أو أن الأساسات حقل ألغام هندسي، بل توضح أن الخطأ لا يكمن في استخدام
الأساسات بحد ذاتها، بل في تقدير التربة بشكل خاطئ، أو في تجاهل خصائصها
الديناميكية، أو في الاستخفاف بالتقارير الجيوتقنية.
إن التصميم الجيد يبدأ من التحقيق
الميداني المفصل، يمر عبر النمذجة الواقعية للتربة والأساسات، ويعتمد
على التحقق خلال التنفيذ.
كما أن وجود مهندس جيوتقني ضمن فريق
المشروع لم يعد ترفًا، بل ضرورة حاسمة، لأن التربة لا تقرأ المخططات، بل تتفاعل مع
الواقع فقط.
في النهاية، إن فشل الأساسات لا يُعد
فقط فشلًا إنشائيًا، بل فشلًا في التواصل بين الهندسة والجيولوجيا، وبين النظرية
والموقع. ولعل أعظم ما يمكن أن يتعلمه المهندس من هذه الكوارث هو أن أكثر الأخطاء
كارثية هي تلك التي تُبنى على افتراضات غير مؤكدة.
إذا كانت الأعمدة والأسقف تُصمم
ليُنظر إليها، فإن الأساسات تُصمم لتُنسى. ولكن حين تفشل، لا ينسى أحد ذلك أبدًا.